الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
فإنه يؤول فيه المعرفة بالنكرة وهذا أول فيه النكرة بالمعرفة أو جعلت في حكمها للوصف، ويمكن كما قال بعض المحققين أن يكون منه بأن يجعل الأوليان لعدم تعينهما كالنكرة. وعن أبي علي الفارسي أنه نائب فاعل {استحق} والمراد على هذا استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة كما قال الزمخشري أو إثم الأوليين كما قيل وهو تثنية الأولى قلبت ألفه ياء عندها، وفي على في {عَلَيْهِمْ} أوجه الأول: أنها على بابها. والثاني: أنها عنى في. والثالث: أنها عنى من وفسر {استحق} بطلب الحق وبحق وغلب وقرأ يعقوب وخلف وحمزة وعاصم في رواية أبي بكر عنه {استحق عَلَيْهِمُ الاولين} ببناء استحق للمفعول، والأولين جمع أول المقابل للآخر وهو مجرور على أنه صفة {الذين} أو بدل منه أو من ضمير {عَلَيْهِمْ} أو منصوب على المدح، ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة. وقيل: التقدم في الذكر لدخولهم في {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ}. وقرأ الحسن {الأولان} بالرفع وهو كما قدمنا في الأوليان؛ وقرئ «الأولين» بالتثنية والنصب، وقرأ ابن سيرين {الأوليين} بياءين تثنية أولى منصوبًا، وقرئ {أساطير الاولين} بسكون الواو وفتح اللام جمع أولى كأعلين وإعراب ذلك ظاهر.{فَيُقْسِمَانِ بالله} عطف على {يِقُومَانُ} والسببية ظاهرة. وقوله سبحانه: {لشهادتنا أَحَقُّ مِن شهادتهما} جواب القسم.والمراد بالشهادة عند الكثير ومنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اليمين كما في قوله عز وجل: {فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهادات بالله} [النور: 6] وسميت اليمين شهادة على ما قاله الطبرسي «لأن اليمين كالشهادة على ما يحلف عليه أنه كذلك» أي ليميننا على أنهما كاذبان فيما ادعيا من الاستحقاق مع كونها حقة صادقة في نفسها أولى بالقبول من يمينهما مع كونها كاذبة في نفسها لما أنه قد ظهر للناس استحقاقهما للإثم ويميننا منزهة عن الريب والريبة وصيغة التفضيل إنما هي لإمكان قبول يمينهما في الجملة باعتبار صدقهما في ادعاء تملكهما لما ظهر في أيديهما، وقيل: إن الشهادة على معناها المتبادر عند الإطلاق، وسيأتي إن شاء الله تعالى عن بعض المحققين غير ذلك.وقوله عز شأنه: {وَمَا اعتدينا} عطف على الجواب أي ما تجاوزنا في شهادتنا الحق وما اعتدينا عليهما بإبطال حقهما. وقوله تعالى: {إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظالمين} استئناف مقرر لما قبله أي إنا إذا اعتدينا فيما ذكر لمن الظالمين أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه أو لمن الواضعين الحق في غير موضعه، ومعنى الآيتين عند غير واحد من المفسرين أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي دينه أو نسبه فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم، ثم إن وقع ارتياب في صدقهما أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت فإن اطلع على كذبهما بأمارة حلف آخران من أهل الميت. وادعى أن الحكم منسوخ إذا كان الإثنان شاهدين فإنه لا يحلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث، وقيل: إن التحليف لم ينسخ لكنه مشروط بالريبة.وقد روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما، وفي بعض كتب الحنفية أن الشاهد إن لم يجد من يزكيه يجوز تحليفه احتياطًا وهذا خلاف المفتى به كما بسط في محله. وكذا ادعى البعض النسخ أيضًا على تقدير أن يكون المراد بالشاهدين في السفر غير مسلمين لأن شهادة الكافر على المسلم لا تقبل مطلقًا، وروى حديث النسخ ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال بعضهم: لا نسخ وأجاز شهادة الذمي على المسلم في هذه الصورة.وروي عن أبي موسى الأشعري أنه حكم لما كان واليًا على الكوفة حضر من الصحابة بشهادة ذميين بعد تحليفهما في وصية مسلم في السفر وإلى ذلك ذهب الإمام أحمد بن حنبل، وقال آخرون: الإثنان وصيان وحكم تحليفهما إذا ارتاب الورثة غير منسوخ، وما أفادته الآية من رد اليمين على الورثة ليس من حيث إنهم مدعون وقد ظهرت خيانة الوصيين فردت اليمين عليهما خلافًا للشافعي بل من حيث إنهم صاروا مدعى عليهم لانقلاب الدعوى فإن الوصي المدعى عليه أولًا صار مدعيًا للملك والورثة ينكرون ذلك، ويدل عليه ما أخرجه البخاري في التاريخ والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وخلق آخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، وقيل: نداء بالنون فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فلما قدما بتركته فقدموا جاما من فضة مخوصًا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله تعالى ما كتمتما ولا اطلعتما ثم وجد الجام كة فقيل اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله سبحانه لشهادتهما أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم وأخذ الجام وفيهم نزلت {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ}..» إلخ، هذا وادعى بعض المحققين أن الشهادة هاهنا لا يمكن أن تكون عناها المتبادر بوجه ولا تتصور لأن شهادتهما إما على الميت ولا وجه لها بعد موته وانتقال الحق إلى الورثة وحضورهم أو على الوارث المخاصم وكيف يشهد الخصم على خصمه فلابد من التأويل، وذكر أن الظاهر أن تحمل في قوله سبحانه: {شهادة بَيْنِكُمْ} على الحضور أو الإحضار أي إذا حضر الموت المسافر فليحضر من يوصي إليه بإيصال ماله لوارثه مسلمًا فإن لم يجد فكافرًا، والاحتياط أن يكونا اثنين فإذا جاءا بما عندهما وحصل ريبة في كتم بعضه فليحلفا لأنهما مودعان مصدقان بيمينهما فإن وجد ما خانا فيه وادعيا أنهما تملكاه منه بشراء ونحوه ولا بينة لهما على ذلك يحلف المدعى عليه على عدم العلم بما ادعياه من التملك وأنه ملك لمورثهما لا نعلم انتقاله عن ملكه، والشهادة الثانية: عنى العلم المشاهد أو ما هو نزلته لأن الشهادة المعاينة فالتجوز بها عن العلم صحيح قريب، والشهادة الثالثة: إما بهذا المعنى أو عنى اليمين، وعلى هذا وهو مما أفاضه الله تعالى عليَّ ببركة كلامه سبحانه فلا نسخ في الآية ولا إشكال، وما ذكروه كله تكلف لم يصف من الكدر لذوق ذائق، وسبب النزول وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم مبين لما ذكر انتهى.ولعل تخصيص الإثنين اللذين يحلفان بأحقية شهادتهما على ما قيل لخصوص الواقعة وإلا فإن كان الوارث واحدًا حلف وإن تعدد حلف المتعدد كما بين في الكتب الفقهية، وما ذكر من أن سبب النزول إلخ مبين لما قرره فيه بعض خفاء إذ ليس في الخبر أن الوارثين حلفا على عدم العلم، وفي غيره ما هو نص في الحلف على الثبات، فقد روي في خبر أطول مما تقدم أن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميين قاما فحلفا بالله سبحانه بعد العصر أنهما أي تميمًا وعديا كذبا وخانا، نعم قال الترمذي في «الجامع» بعد روايته لذلك الخبر: إنه حديث غريب وليس إسناده بصحيح، وأيضًا في حمل الشهادة على شيء مما ذكره في قوله سبحانه: {وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله} خفاء، وادعى هو نفسه أن حمل الشهادة على اليمين بعيد لأنها إذا أطلقت فهي المتعارفة فتأمل، فقد قال الزجاج: إن هذه الآية من أشكل ما في القرآن، وقال الواحدي: روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام، وقال الإمام: اتفق المفسرون على أن هذه الآية في غاية الصعوبة إعرابًا ونظمًا وحكمًا، وقال المحقق التفتازاني: اتفقوا على أن هذه الآية أصعب ما في القرءان حكمًا وإعرابًا ونظمًا.وقال الشهاب: اعلم أنهم قالوا: ليس في القرآن أعظم إشكالًا وحكمًا وإعرابًا وتفسيرًا من هذه الآية والتي بعدها يعني {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ} إلخ وقوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ} إلخ حتى صنفوا فيها تصانيف مفردة قالوا: ومع ذلك لم يخرج أحد من عهدتها. وذكر الطبرسي أن الآيتين من أعوص القرآن حكمًا ومعنى وإعرابًا وافتخر بما أتى فيهما ولم يأت بشيء إلى غير ذلك من أقوالهم وسبحان الخبير بحقائق كلامه.
وجوز السمين كون أو عنى الواو كما جوز جعلها لأحد الشيئين على ما هو الأصل فيها فتدبر وجمع ضمير {يَأْتُواْ} و{يخافوا} على ما قيل لأن المراد ما يعم الشاهدين المذكورين وغيرهما من بقية الناس، والظرف بعد متعلق بترد كما هو الظاهر. وجوز السمين وهو ضعيف أن يكون متعلقًا حذوف وقع صفة لأيمان.{واتقوا الله} في مخالفة أحكامه التي من جملتها ما ذكر. والجملة على ما قيل عطف على مقدر أي احفظوا أحكام الله سبحانه واتقوا {واسمعوا} سمع إجابة وقبول جميع ما تؤمرون به {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} تذييل لما تقدم، والمراد فإن لم تتقوا وتسمعوا كنتم فاسقين خارجين عن الطاعة والله تعالى لا يهدي القوم الخارجين عن طاعته إلى ما ينفعهم أو إلى طريق الجنة.
|